فصل: تفسير الآية رقم (75):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التيسير في التفسير أو التفسير الكبير المشهور بـ «تفسير القشيري»



.تفسير الآية رقم (75):

{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)}
قوله جلّ ذكره: {وَمِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنَهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّنْ إن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} الآية.
أخبر أنهم- مع ضلالتهم وكفرهم- متفاوتون في أخلاقهم، فكُلُّهمْ خَوَنَةٌ في أمانة الدِّين، ولكنّ منهم من يرجع إلى سداد المعاملة، ثم وإن كانت معاملتهم بالصدق فلا ينفعهم ذلك في إيجاب الثواب ولكن ينفعهم من حيث تخفيف العذاب؛ إذ الكفار مُطَالَبُون بتفصيل الشرائع، فإذا كانوا في كفرهم أقلَّ ذنباً كانوا بالإضافة إلى الأخسرين أقلَّ عذاباً، وإن كانت عقوبتهم أيضاً مؤبَّدة.
ثم بيَّن أنه ليس الحكم إليهم حتى إذا: {قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا في الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ}.
فلا تجري عليهم هذه الحالة، أو تنفعهم هذه القالة، بل الحكم لله تعالى.

.تفسير الآية رقم (77):

{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)}
الذين آثروا هواهم على عُقباهم، وقدَّموا مناهم على موافقة مولاهم أولئك لا نصيب لهم في الآخرة؛ فللاستمتاع بما اختاروا من العاجل خسروا في الدارين.
بقوا عن الحق، وما استمتعوا بحظِّ، جَمَعَ عليهم فنون المِحَن ولكنهم لا يدرون ما أصابهم، لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم، ثم مع هذا يُخَلِّدُم في العقوبة الأبدية.

.تفسير الآية رقم (78):

{وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)}
الإشارة من هذه الآية إلى المبطلين في الدعاوى في هذه الطريقة.
يزيِّنون العبارات، ويطلقون ألسنتهم بما لا خَبَرَ في قلوبهم منه، ولا لهم بذلك تحقيق، تلبيساً على الأغبياء والعوام وأهل البداية؛ يوهمون أن لهم تحقيق ما يقولونه بألسنتهم. قال تعالى في صفة هؤلاء: {لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الكِتَابِ}، كذلك أرباب التلبيس والتدليس، يُرَوِّجون قالتَهم على المستضعفين، فأما أهل الحقائق فأسرارهم عندهم مكشوفة.
قال الله تعالى: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، أي يعلمون أنهم كاذبون، كذلك أهل الباطل والتلبيس في هذه الطريقة يتكلمون عن قلوب خَرِبةَ، وأسرار محجوبة، نعوذ بالله من استحقاق المقت!

.تفسير الآية رقم (79):

{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)}
أي ليس من صفة مَنْ اختراناه للنبوة واصطفيناه للولاية أن يدعو الخلق إلى نفسه، أو يقول بإثبات نفسه وحظِّه، لأن اختياره- سبحانه- إياهم للنبوة يتضمن عصمتهم عَمَّا لا يجوز، فتجويز ذلك في وصفهم مُنافٍ لحالهم، وإنما دعاء الرسل والأولياء- للخلق- إلى الله سبحانه وتعالى، وهو معنى قوله تعالى: {وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} أي إنما أشار بهم على الخلق بأن يكونوا ربانيين، والربَّاني منسوبٌ إلى الرب كما يقال فلان دقياني ولحياني وبابه.
وهم العلماء بالله الحلماء في الله القائمون بفنائهم عن غير الله، المستهلكة حظوظهم، المستغرِقون في حقائق وجوده عن إحساسهم بأحوال أنفسهم، ينطقون بالله ويسمعون بالله، وينظرون بالله، فهم بالله مَحْوٌ عمَّا سنى الله.
ويقال الرباني من ارتفع عنه ظِلِّ نفسه، وعاش في كنف ظلِّه- سبحانه.
ويقال الرباني الذي لا يُثْبِتُ غير ربِّه مُوَحَّداً، ولا يشهد ذرة من المحو والإثبات لغيره أو مِنْ غيره.
ويقال الربَّاني من هو مَحْقٌ في وجوده- سبحانه- ومحو عن شهوده، فالقائم عنه غَيْرُه، والمُجْرِي لِمَا عليه سواه.
ويقال الربَّاني الذي لا تؤثر فيه تصاريف الأقدار على اختلافها.
ويقال الربَّاني الذي لا تُغَيِّره محنة ولا تَضُرُّه نِعْمة- فهو على حالة واحدة في اختلاف الطوارق.
ويقال الربَّاني الذي لا يتأثر بورود واردٍ عليه، فَمَنْ استنطقته رقة قلبِ، أو اسْتَمَالَه هجومُ أمر، أو تفاوتت عنده أخطار حادث- فليس برباني.
ويقال إنَّ الربَّاني هو الذي لا يبالي بشيء من الحوادث بقلبه وسِرِّه، ومن كان لا يقصر في شيء من الشرع بفعله.
{بِمَا كُنتُْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} مِنْ توالي إحساني إليكم، وتضاعف نعمتي لديكم.

.تفسير الآية رقم (80):

{وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)}
أي لا تنسبون إليهم ذرة من الإثبات في الخير والشر.
ويقال يعرفكم حدَّ البشرية وحقَّ الربوبية.
ويقال يأمركم بتوقيرهم من حيث الأمر والشريعة، وتحقير قدر الخلق- بالإضافة إلى الربوبية. {أَيَأْمُرُكُم بِالكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} أيأمركم بإثبات الخلق بعد شهود الحق؟
ويقال: أيأمركم بمطالعة الأشكال، ونسبة الحدثان إلى الأمثال، بعد أن لاحت في أسراركم أنوار التوحيد، وطلعت في قلوبكم شموس التفريد.

.تفسير الآية رقم (81):

{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)}
قوله جلّ ذكره: {وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} الآية.
أخذ الله ميثاق محمد صلى الله عليه وسلم على جميع الأنبياء عليهم السلام، كما أخذ ميثاقهم في الإقرار بربوبيته- سبحانه، وهذا غاية التشريف للرسول عليه السلام، فقد قَرَنَ اسمه باسم نفسه، وأثبت قَدْرَة كما أثبت قدر نفسه، فهو أوحد الكافة في الرتبة، ثم سَهَّلَ سبيلَ الكافة في معرفة جلاله بما أظهر عليه من المعجزات.

.تفسير الآية رقم (82):

{فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)}
الإشارة فيه: فَمَنْ حاد عن سُنَّتِه، أو زاغ عن اتباع طريقته بعد ظهور دليله، ووضوح معجزته فأولئك هم الذين خَبُثَتْ درجتهم، ووجب المقت عليهم لجحدهم، وسقوطهم عن تعلُّق العناية بهم.

.تفسير الآية رقم (83):

{أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)}
قوله جلّ ذكره: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن في السَّمَوَاتِ والأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا}.
مَنْ لاحظه على غير الحقيقة، أو طالع سواه في توهم الأهلية كَرَاءِ السراب ظَنَّه ماءً فلمَّا أتاه وجده هباءً. ومغاليط الحسبانات مُقَطّعِةٌ مُشِكلَةٌ فَمَنْ حَلَّ بها نَزَلَ بوادٍ قَفْرٍ.
{وَلَهُ أَسْلَمَ مَن في السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} لإجراء حكم الإلهية على وجه القهر عليهم.

.تفسير الآية رقم (84):

{قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)}
آمنا بالله لا بنفوسنا أو حَوْلنا أو قوتنا.
وآمنا بما أنزل علينا بالله، وأَنَّا لا نُفَرِّق بين أحد منهم- بالله سبحانه- لا بحولنا واختيارنا، وجهدنا واكتسابنا، ولولا أنه عرَّفنا أنه مَنْ هو ما عرفنا وإلا فمتى عَلِمْنا ذلك.

.تفسير الآية رقم (85):

{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)}
مَنْ سَلَكَ غير الخمود تحت جريان حكمه سبيلاً زَلَّتَ قَدَمُه في وهدة من المغاليط لا مدى لقعرها.
ويقال من توسَّل إليه بشيء دون الاعتصام به فخُسْرانه أكثر من رِبْحِه.
ويقال من لم يَفْنَ عن شهود الكل لم يصل إلى مَنْ به الكل.
ويقال مَنْ لم يَمْشِ تحت راية المصطفى صلى الله عليه وسلم المُعظَّم في قَدْره، المُعَلَّى في وصفه، لم يُقْبَلْ منه شيء ولا ذرة.

.تفسير الآية رقم (86):

{كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)}
قوله جلّ ذكره: {كَيْفَ يَهْدِى اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ} الآية.
مَنْ أبعده عن استحقاق الوصلة في سابق حكمه فمتى يقربه من بساط الخدمة بفعله في وقته؟
ويقال: الذي أقصاه حكم (الأول) متى أدناه صدق العمل؟ والله غالبٌ على أمره.

.تفسير الآية رقم (87):

{أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87)}
أولئك قصارى حالهم ما سبق لهم من حكمه في ابتداء أمرهم، ابتداؤهم ردُّ القسمة، ووسائطهم الصدُّ عن الخدمة، ونهايتهم المصير إلى الطرد والمذلة.

.تفسير الآية رقم (88):

{خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88)}
خالدين في تلك المذلة لا يفتر عنهم العذاب لحظة، ولا يخفف دونهم الفراق ساعة.

.تفسير الآية رقم (89):

{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)}
أولئك هم الذين تداركتهم الرحمة، ولم يكونوا في شق السبق من تلك الجملة، وإن كانوا في توهم الخلق من تلك الزمرة.

.تفسير الآية رقم (90):

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)}
الإشارة منه: أن الذين رجعوا إلى أحوال أهل العادة بعد سلوكهم طريق الإرادة، وآثروا الدنيا ومطاوعة الهوى على طلب الحق سبحانه وتعالى، ثم أنكروا على أهل الطريقة، وازدادوا في وحشة ظلماتهم- لن تُقبلَ توبتهم، {وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ} عن طريق الحق فإنه لا يقبل الأمانة بعد ظهور الخيانة. وعقوبتهم أنهم على ممر الأيام لا يزدادون إلا نفرة قلب عن الطريقة، ولا يتحسرون على ما فاتهم من صفاء الحالة. ولو أنهم رجعوا عن إصرارهم لها لقُبِلت توبتهم، ولكن الحق سبحانه أجرى سنته مع أصحاب الفترة في هذه الطريقة إذا رجعوا إلى أصول العادة ألا يتأسَّفوا على ما مضى من أوقاتهم.
قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110] وإن المرتدَّ عن الإسلام لأشدُّ عداوة للمسلمين من الكافر الأصلي، فكذلك الراجع عن هذه الطريقة لأشد إنكاراً لها وأكثر إعراضاً عن أهلها من الأجنبيِّ عنها.

.تفسير الآية رقم (91):

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)}
الإشارة منه: لِمنْ مات بعد فترته- وإن كانت له بداية حسنة- فلا يحشر في الآخرة مع أهل هذه القصة، ولو تشفع له ألف عارف، بل من كمال المكر به أنه يلقى شبهه في الآخرة على غيره حتى يتوهم معارفه من أهل المعرفة أنه هو- فلا يخطر ببال أحد أنه ينبغي أن يشفع له.

.تفسير الآية رقم (92):

{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)}
لمَّا كان وجود البرِّ مطلوباً ذكر فيه مِنْ التي للتبعيض فقال: {مِمَّا تُحِبُّونَ}؛ فَمنْ أراد البر فلينفق مما يحبه أي البعض، وَمَنْ أراد البَارَّ فلينفقْ جميع ما يحبه. ومن أنفق محبوبه من الدنيا وَجَدَ مطلوبه من الحق تعالى، ومن كان مربوطاً بحظوظ نفسه لم يحظ بقرب ربِّه.
ويقال إذا كنت لا تصل إلى البر إلا بإنفاق محبوبك فمتى تصل إلى البارّ وأنت تؤثر عليه حظوظك. {وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ} منهم من ينفق على ملاحظة الجزاء والعِوض، ومنهم من ينفق على مراقبة دفع البلاء والحَزن، ومنهم من ينفق اكتفاء بعلمه، قال قائلهم:
ويهتز للمعروف في طلب العلى ** لتُذكَرَ يوماً- عند سلمى- شمائلُه

.تفسير الآيات (93- 94):

{كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94)}
الأصل في الأشياء ألا يشرع فيها بالتحليل والتحريم، فما لا يوجد فيه حدٌّ فذلك من الحق- سبحانه- توسعة ورفقة إلى أن يحصل فيه أمر وشرع؛ فإنَّ الله- سبحانه- وسَّعَ أحكام التكليف على أهل النهاية، فسبيلهم الأخذ بما هو الأسهل لتمام ما هم به من أحكام القلوب، فإن الذي على قلوبهم من المشاق أشد. وأما أهل البداية فالأمر مضيَّقٌ عليهم في الوظائف والأوراد؛ فسبيلهم الأخذ بما هو الأشق والأصعب لفراغهم بقلوبهم من المعاني، فمن ظنّ بخلاف هذا فقد غلط.
والإشارة من هذه الآية أيضاً في قوله: {فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الكَذِبَ} إلى أحوال أهل الدعاوى والمغاليط؛ فإنهم يخلون بنفوسهم فينسبون إلى الله- سبحانه- هواجسها، والله بريء عنها. وعزيزٌ عبدٌ يفرِّق بين الخواطر والهواجس.